فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاَللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حكم الْعَقْد بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ:
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِنِكَاحٍ عَلَى مُشْرِكَةٍ كَانَتْ كِتَابِيَّةً أَوْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ؛ قَالَهُ عُمَرُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ إذَا كَانَتْ أَمَةً.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَطْءُ مَنْ لَا كِتَابَ لَهُ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْعَرَبِ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
قَالَ الْقَاضِي: وَدَرَسَنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنُ الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ قَالَ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}؛ وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَايَرَ بَيْنَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْمُشْرِكَةِ، فَلَوْلَا أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ جَائِزٌ لَمَا خَايَرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُخَايَرَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْجَائِزَيْنِ، لَا بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْمُمْتَنَعِ، وَلَا بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك لَا تَقُولُ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَجُوزُ الْمُخَايَرَةُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ لُغَةً وَقُرْآنًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} وَلَا خَيْرَ عِنْد أَهْلِ النَّارِ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي مُوسَى: الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْعَبْدِ الْمُشْرِكِ لِلْمُؤْمِنَةِ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ لِلْمُشْرِكَةِ؛ إذْ لَوْ دَلَّ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ لَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا سِيقَتَا فِي الْبَيَانِ مَسَاقًا وَاحِدًا.
الثَّالِثُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَأَمَةٌ} لَمْ يُرِدْ بِهِ الرَّقِيقَ الْمَمْلُوكَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ: الْآدَمِيَّةُ وَالْآدَمِيَّاتُ، وَالْآدَمِيُّونَ بِأَجْمَعِهِمْ عَبِيدُ اللَّهِ وَإِمَاؤُهُ؛ قَالَهُ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْجُرْجَانِيُّ.
التَّنْقِيحُ: كُلُّ كَافِرٍ بِالْحَقِيقَةِ مُشْرِكٌ؛ وَلِذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَرِهَ نِكَاحَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة، وَقَالَ: أَيُّ شِرْكٍ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَقُولُ: عِيسَى هُوَ اللَّهُ أَوْ وَلَدُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
فَإِنْ حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَتْهُ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ وَلَمْ تَنْسَخْهُ؛ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ فَالْعُرْفُ إنَّمَا يَنْطَلِقُ فِيهِ لَفْظُ الْمُشْرِكِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ الْمَجُوسِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وَقَالَ: {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} فَلَفْظُ الْكُفْرِ يَجْمَعُهُمْ، وَيَخُصُّهُمْ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا كَمَا قُلْتُمْ فَالْعِلَّةُ تَجْمَعُهُمْ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ}؛ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ.
قُلْنَا: لَا نَمْنَعُ فِي الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَامَّةً وَالْحُكْمُ خَاصًّا أَوْ أَزَيْدُ مِنْ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِ وَأَمَارَاتٌ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَاتٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ} يَرْجِعُ إلَى الرِّجَالِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} لَا إلَى النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُسْلِمَةَ لَوْ تَزَوَّجَتْ كَافِرًا حُكِمَ عَلَيْهَا حُكْمُ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا وَدَعَاهَا إلَى الْكُفْرِ، وَلَا حُكْمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ؛ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}:
قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ، وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُهُ بِأَنْ لَوْ تَفْتَقِرُ إلَى جَوَابٍ، وَنَسِيَ أَنَّ إنْ أَيْضًا تَفْتَقِرُ إلَى جَزَاءٍ.
وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: لَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ابْتِدَاءً وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ حُسْنُهُنَّ، كَمَا تَقُولُ، لَا تُكَلِّمَ زَيْدًا وَإِنْ أَعْجَبَك مَنْطِقُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الولاية في النكاح:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ: النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ ثُمَّ قَرَأَ: وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ بِضَمِّ التَّاءِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الْآيَةَ، فَقَالَ النَّاسُ: مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا إِنَّمَا قَالَ: {إِثْمٌ كَبِيرٌ} وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى كَانَ يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ صَلَّى رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمَّ أَصْحَابَهُ فِي الْمَغْرِبِ فَخَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [4: 43] الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}- إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [5: 90- 91] قَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا. وَقَالَ الْجَلَالُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ: إِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ شَرِبَهَا قَوْمٌ وَامْتَنَعَ آخَرُونَ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِطْلَاقِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنْ كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ لَهُ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ- وَصَحَّحَهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِالْمَالِ وَالْعَقْلِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقَرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَكَانَ يُنَادِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ: «أَنْ لَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانُ» فَدُعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: «اللهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ، فَدَعِي عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا بَلَغَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا. وَلَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ مَعْنَى الْآيَاتِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، وَيَظْهَرُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَنَّ الْقَطْعَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهَا كَانَ بَعْدَ تَمْهِيدٍ بِالذَّمِّ وَالنَّهْيِ عَنِ السُّكْرِ فِي حَالِ قُرْبِ الصَّلَاةِ، وَأَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ مُتَقَارِبَةٌ فَمَنْ يُنْهَى عَنْ قُرْبِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَلابد أَنْ يَتَجَنَّبَ السُّكْرَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا تَحْضُرَهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الَّتِي قَيَّدَ بِهَا النَّهْيَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْحِكْمَةِ فِي التَّدَرُّجِ بِالتَّكْلِيفِ مَا لَا يَخْفَى. قَالَ الْقَفَّالُ: وَالْحِكْمَةُ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا قَدْ أَلِفُوا شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ انْتِفَاعُهُمْ بِهَا كَثِيرًا، فَعَلِمَ اللهُ أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنِ اسْتَعْمَلَ فِي التَّحْرِيمِ هَذَا التَّدْرِيجَ وَهَذَا الرِّفْقَ. وَالَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ- لَوْلَا الرِّوَايَاتُ- أَنَّ آيَةَ سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ الَّتِي نَزَلَتْ أَوَّلًا، فَكَانُوا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الشُّرْبِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ لِئَلَّا تَفُوتَهُمُ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا آيَةُ الْمَائِدَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلَ؛ لِأَنَّهَا أَكَّدَتِ النَّهْيَ، وَبَيَّنَتْ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ بِالتَّعْيِينِ، عَلَى أَنَّ السُّورَةَ بِرُمَّتِهَا مِنْ آخِرِ السُّورِ نُزُولًا.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّ مَا أَتَى بَعْدَهَا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّوْكِيدِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِثْمِ يُفِيدُ الْمُحَرَّمَ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [7: 33] وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ كَانَ تَدْرِيجِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجَّهَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْهُودُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْإِثْمَ هُوَ الضَّرَرُ، فَتَحْرِيمُ كُلِّ ضَارٍّ لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا فِيهِ مَضَرَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَمُنَفِّعَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَوْضِعًا لِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فَتَرَكَ لَهَا الْخَمْرَ بَعْضُهُمْ وَأَصَرَّ عَلَى شُرْبِهَا آخَرُونَ، كَأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ لَهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا مَعَ اجْتِنَابِ ضَرَرِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِلْقَطْعِ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَوْ فُوجِئُوا بِالتَّحْرِيمِ مَعَ وَلُوعِ الْكَثِيرِينَ بِهَا وَاعْتِقَادِهِمْ مَنْفَعَتَهَا لَخَشِيَ أَنْ يُخَالِفُوا أَوْ يَسْتَثْقِلُوا التَّكْلِيفَ، فَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ أَنْ رَبَّاهُمْ عَلَى الِاقْتِنَاعِ بِأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ وَفَوَائِدِهِ لِيَأْخُذَهُ بِقُوَّةٍ وَعَقْلٍ.
لَفْظُ الْخَمْرِ مَنْقُولٌ مِنْ مَصْدَرِ خَمَّرَ الشَّيْءَ بِمَعْنَى سَتَرَهُ وَغَطَّاهُ، يُقَالُ: خَمَّرَتُ الشَّيْءَ إِذَا سَتَرْتُهُ وَخَمَّرْتُ الْجَارِيَةَ أَلْبَسْتُهَا الْخِمَارَ، وَهُوَ النَّصِيفُ الَّذِي تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا، وَتَخَمَّرَتْ هِيَ وَاخْتَمَرَتْ. وَالْوَجْهُ فِي النَّقْلِ أَنَّ هَذَا الشَّرَابَ يَسْتُرُ الْعَقْلَ وَيُغَطِّيهِ، أَوْ هُوَ مِنْ خَامَرَهُ بِمَعْنَى خَالَطَهُ، يُقَالُ: خَامَرَهُ الدَّاءُ؛ أَيْ: خَالَطَهُ، وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ عُمَرُ فِي خُطْبَةٍ لَهُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِمَعْنَى التَّغَيُّرِ، يُقَالُ: خَمِرَ الشَّيْءُ- كَعَلِمَ- إِذَا تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَالْعَصِيرُ يَتَغَيَّرُ فَيَكُونُ خَمْرًا، أَوْ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، مِنْ خَمَّرَ الْعَجِينَ وَنَحْوَهُ فَاخْتَمَرَ؛ أَيْ: بَلَغَ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّهُ يُقَالُ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ خَمْرًا؛ لِأَنَّهَا تُرِكَتْ حَتَّى اخْتَمَرَتْ، وَاخْتِمَارُهَا تُغَيُّرُ رَائِحَتِهَا، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي ظَاهِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ كُلِّهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْخَمْرِ لُغَةً عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَشْهَرُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ كَالْجَوْهَرِيِّ وَأَبِي نَصْرٍ الْقُشَيْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيِّ وَالْمَجْدِ صَاحِبِ الْقَامُوسِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ حَقِيقِيٌّ وَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَصِحَّ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمِّي نَوْعًا خَاصًّا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ خَمْرًا لَا تُطْلِقُ اللَّفْظَ عَلَى مُسْكِرٍ سِوَاهُ، وَهُوَ مَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مَا اعْتُصِرَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، زَادَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ سَكَنَ، وَقِيلَ إِذَا اشْتَدَّ فَقَطْ. وَيَرُدُّهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ- وَهُمْ صَمِيمُ الْعَرَبِ- فَهِمُوا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الْعِنَبِ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ؛ بَلْ قَالَ أَهْلُ الْأَثَرِ: إِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ شَرَابُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلَّا نَبِيذُ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، فَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ نَصُّ الْقُرْآنِ ابْتِدَاءً. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وَهُوَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَكَأَنَّ هَذَا كُلُّ مَا يُعْرَفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْرَهُ مِثْلُهُ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَرُوِيَ بِزِيَادَةِ: «وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ يَجْلِدُونَ كُلَّ مَنْ سَكِرَ، وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِحَدِّ الْخَمْرِ أَوْ عُقُوبَتِهِ، يَقُولُ الْمُخَصِّصُونَ: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ اصْطِلَاحٌ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ، وَنَقُولُ: إِنَّ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ عَلَيْهِمْ قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ الَّتِي نَهَى الله عَنْهَا فِي كِتَابِهِ هِيَ كُلُّ مُسْكِرٍ، فَلَا فَرْقَ فِي حُكْمِهَا بَيْنَ مُسْكِرٍ وَآخَرَ، وَهَذَا الْبَيَانُ قَطْعِيٌّ مُتَوَاتِرٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ».
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ فَهُوَ الْقِمَارُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ يَسَرَ إِذَا وَجَبَ، أَوْ مِنَ الْيُسْرِ بِمَعْنَى السُّهُولَةِ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كَدٍّ، أَوْ مِنَ الْيَسَارِ وَهُوَ الْغِنَى؛ لِأَنَّهُ سَبَبُهُ لِلرَّابِحِ. أَوْ مِنَ الْيَسَرِ بِمَعْنَى التَّجْزِئَةِ وَالِاقْتِسَامِ، يُقَالُ: يَسَرُوا الشَّيْءَ إِذَا اقْتَسَمُوهُ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَيْسِرُ الْجَزُورُ- الْجَمَلُ- كَانُوا يَتَقَامَرُونَ عَلَيْهِ، سُمِّيَ مَيْسِرًا؛ لِأَنَّهُ يُجَزَّأُ أَجْزَاءً، فَكَأَنَّهُ مَوْضِعُ التَّجْزِئَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جَزَّأْتَهُ فَقَدْ يَسَرْتَهُ، وَالْيَاسِرُ الْجَازِرُ أَيْ: لِأَنَّهُ يُجَزِّئُ لَحْمَ الْجَزُورِ، ثُمَّ صَارَ يُقَالُ لِلْمُتَقَامِرِينِ جَازِرُونَ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ الْجَزْرِ وَالتَّجْزِئَةِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهِيَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ عَشَرَةُ قِدَاحٍ جَمْعُ قِدْحٍ بِالْكَسْرِ وَتُسَمَّى الْأَزْلَامَ وَالْأَقْلَامَ، وَهِيَ الْفَذُّ، وَالتَّوْءَمُ، وَالرَّقِيبُ، وَالْحَلِسُ كَكَتِفٍ وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالنَّافِسُ، وَالْمَنِيحُ، وَالسَّفِيحُ، وَالْوَغْدُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعَةِ الْأُولَى نَصِيبٌ مَعْلُومٌ مِنْ جَزُورٍ يَنْحَرُونَهَا وَيُجَزِّئُونَهَا عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ أَوْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ جُزْءًا، وَلَيْسَ لِلثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ شَيْءٌ، فَلِلْفَذِّ سَهْمٌ، وَلِلتَّوْءَمِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّقِيبِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْحَلِسِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلنَّافِسِ خَمْسَةٌ، وَلِلْمُسْبِلِ سِتَّةٌ، وَلِلْمُعَلَّى سَبْعَةٌ وَهُوَ أَعْلَاهَا؛ وَلِذَلِكَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ لِمَنْ كَانَ أَكْبَرَ حَظًّا أَوْ نَجَاحًا مَنْ غَيْرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مُفِيدٍ لَهُ، فَيُقَالُ: صَاحِبُ الْقَدَحِ الْمُعَلَّى، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْأَزْلَامَ فِي الرَّبَابَةِ، وَهِيَ الْخَرِيطَةُ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى يَدِ عَدْلٍ يُجَلْجِلُهَا وَيُدْخِلُ يَدَهُ فَيُخْرِجُ مِنْهَا وَاحِدًا بِاسْمِ رَجُلٍ، ثُمَّ وَاحِدًا بِاسْمِ رَجُلٍ إِلَخْ، فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْصِبَاءِ أَخَذَ النَّصِيبَ الْمَوْسُومَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدَحُ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُ قَدَحٌ لَا نَصِيبَ لَهُ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَغَرِمَ ثَمَنَ الْجَزُورِ كُلَّهُ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ تِلْكَ الْأَنْصِبَاءَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَأْكُلُونَ مِنْهَا، وَيَفْتَخِرُونَ بِذَلِكَ وَيَذُمُّونَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَهُوَ فِي الْأَصْلِ ثَمَرُ الْعِضَاهِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فَقَالَ:
كُلُّ سِهَامِ الْيَاسِرِينَ عَشَرَةٌ فَأَوْدَعُوهَا صُحُفًا مُنَشَّرَةً لَهَا فُرُوضٌ وَلَهَا نَصِيبُ الْفَذُّ وَالتَّوْءَمُ وَالرَّقِيبُ وَالْحَلِسُ يَتْلُوهُنَّ ثُمَّ النَّافِسُ وَبَعْدَهُ مُسْبِلُهُنَّ السَّادِسُ ثُمَّ الْمُعَلَّى كَاسْمِهِ الْمُعَلَّى صَاحِبُهُ فِي الْيَاسِرِينَ الَأَعْلَى وَالْوَغْدُ وَالسَّفِيحُ وَالْمَنِيحُ غَفْلٌ فَمَا فِيهَا يُرَى رَبِيحُ وَقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الْمَيْسِرُ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الْقِمَارِ بِعَيْنِهِ، أَمْ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُقَامَرَةٍ؟ وَلَكِنْ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ قِمَارٍ مُحَرَّمٌ إِلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ مِنَ الرِّهَانِ فِي السِّبَاقِ وَالرِّمَايَةِ تَرْغِيبًا فِيهِمَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ، وَلَيْسَ مِنْهَا سِبَاقُ الْخَيْلِ الْمَعْرُوفُ فِي عَصْرِنَا؛ فَإِنَّهُ مِنْ شَرِّ الْقِمَارِ الَّذِي تَرْجِعُ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ إِلَى كَوْنِهَا مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {كَثِيرٌ} بِالْمُثَلَّثَةِ مِنَ الْكَثْرَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ {كَبِيرٌ} مِنَ الْكِبَرِ، وَالْإِثْمُ: كُلُّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ وَتَبِعَةٌ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ؛ أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: إِنَّ فِي تَعَاطِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إِثْمًا كَثِيرَ الْمَفَاسِدِ وَذَنْبًا كَبِيرَ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِثْمُ الْخَمْرِ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ مَضَرَّاتِهَا وَالتَّبِعَاتِ الَّتِي تَعْقُبُهَا كَبِيرَةٌ، وَالضَّرَرُ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ وَالنَّفْسِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ، وَيَكُونُ فِي التَّعَامُلِ وَارْتِبَاطِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَا يُوجَدُ إِثْمٌ مِنَ الْآثَامِ كَالْخَمْرِ يَدْخُلُ ضَرَرُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَنْوَاعُ هَذَا الضَّرَرِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ الصِّحِّيَّةِ إِفْسَادُ الْمَعِدَةِ وَالْإِقْهَاءِ- فَقْدُ شَهْوَةِ الطَّعَامِ- وَتَغْيِيرُ الْخَلْقِ، فَالسُّكَارَى يُسْرِعُ إِلَيْهِمُ التَّشَوُّهُ، فَتَجْحَظُ أَعْيُنُهُمْ، وَتَمْتَقِعُ سَحْنَتُهُمْ، وَتَعْظُمُ بُطُونُهُمْ؛ بَلْ قَالَ أَحَدُ أَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِ: إِنَّ السَّكُورَ- كَثِيرُ السُّكْرِ- ابْنَ الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ نَسِيجُ جِسْمِهِ كَنَسِيجِ جِسْمِ ابْنِ السِّتِّينَ، وَيَكُونُ كَالْهَرِمِ جِسْمًا وَعَقْلًا، وَمِنْهَا مَرَضُ الْكَبِدِ وَالْكُلَى، وَدَاءُ السُّلِّ الَّذِي يَفْتِكُ فِي الْبِلَادِ الْأُورُبِّيَّةِ فَتْكًا ذَرِيعًا عَلَى عِنَايَةِ أَهْلِهَا بِقَوَانِينِ الصِّحَّةِ، وَلَكِنْ لَا وِقَايَةَ مِنْ شُرُورِ السُّكْرِ إِلَّا بِتَرْكِهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نَحْوَ نِصْفِ الْوَفِيَّاتِ فِي بَعْضِ بِلَادِ أُورُبَّا بِدَاءِ السُّلِّ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّاءُ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْتَشِرًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ- مِصْرَ- قَبْلَ شُيُوعِ السُّكْرِ فِيهَا، فَهُوَ مِنَ الْأَدْوَاءِ الَّتِي حَمَلَهَا إِلَيْهَا الْأُورُبِّيُّونَ، وَقَدْ كَثُرَ كَثْرَةً فَاحِشَةً فِي مِصْرَ عَلَى أَنَّ جَوَّهَا لَا يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِهِ.
وَأَمَّا ضَرَرُ الْخَمْرِ فِي الْعَقْلِ فَهُوَ مُسْلَّمٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَيْسَ ضَرَرُهُ فِيهِ خَاصًّا بِمَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِ التَّصَوُّرِ وَالْإِدْرَاكِ عِنْدَ السُّكْرِ؛ بَلِ السُّكْرُ يُضْعِفُ الْقُوَّةَ الْعَاقِلَةَ، وَكَثِيرًا مَا يَنْتَهِي بِالْجُنُونِ، وَلِأَحَدِ أَطِبَّاءِ أَلْمَانْيَا كَلِمَةٌ اشْتُهِرَتْ كَالْأَمْثَالِ وَهِيَ اقْفِلُوا لِي نِصْفَ الْحَانَاتِ أَضْمَنْ لَكُمُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ نِصْفِ الْمُسْتَشْفَيَاتِ وَالْبِيمَارِسْتَانَاتِ وَالْمَلَاجِئِ- التَّكَايَا- وَالسُّجُونِ.
وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ: إِنَّ الْمُسْكِرَ لَا يَتَحَوَّلُ إِلَى دَمٍ كَمَا تَتَحَوَّلُ سَائِرُ الْأَغْذِيَةِ بَعْدَ الْهَضْمِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، فَيُزَاحِمُ الدَّمَ فِي مَجَارِيهِ فَتُسْرِعُ حَرَكَةُ الدَّمِ، وَتَخْتَلُّ مُوَازَنَةُ الْجِسْمِ، وَتَتَعَطَّلُ وَظَائِفُ الْأَعْضَاءِ أَوْ تَضْعُفُ، وَتَخْرُجُ عَنْ وَضْعِهَا الطَّبِيعِيِّ الْمُعْتَدِلِ.
فَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي اللِّسَانِ إِضْعَافُ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَفِي الْحَلْقِ الِالْتِهَابُ، وَفِي الْمَعِدَةِ تَرْشِيحُ الْعُصَارَةِ الْفَاعِلَةِ فِي الْهَضْمِ حَتَّى يَغْلُظَ نَسِيجُهَا وَتَضْعُفَ حَرَكَتُهَا، وَقَدْ يُحْدِثُ فِيهَا احْتِقَانًا وَالْتِهَابًا، وَفِي الْأَمْعَاءِ التَّقَرُّحُ، وَفِي الْكَبِدِ تَمْدِيدُهُ وَتَوْلِيدُ الشَّحْمِ الَّذِي يُضْعِفُ عَمَلَهُ، وَكُلُّ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسَمُّونَهُ الْجِهَازَ الْهَضْمِيَّ.
وَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الدَّمِ أَنَّهُ بِمُمَازَجَتِهِ لَهُ يَعُوقُ دَوْرَتَهُ وَقَدْ يُوقِفُهَا أَحْيَانًا فَيَمُوتُ السَّكُورُ فَجْأَةً، وَيُضْعِفُ مُرُونَةَ الشَّرَايِينِ فَتَتَمَدَّدُ وَتَغْلُظُ حَتَّى تَنْسَدَّ أَحْيَانًا فَيَفْسَدُ الدَّمُ، وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ، فَتَكُونُ الْغَنْغَرِينَا الَّتِي تَقْضِي بِقَطْعِ الْعُضْوِ الَّذِي تَظْهَرُ فِيهِ لِئَلَّا يَسْرِيَ الْفَسَادُ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ فَيَكُونُ هَالِكًا، وَتَصَلُّبُ الشَّرَايِينِ يُسْرِعُ الشَّيْخُوخَةَ وَالْهَرَمَ.
وَمِنْ تَأْثِيرِهِ فِي جِهَازِ التَّنَفُّسِ إِضْعَافُ مُرُونَةِ الْحَنْجَرَةِ، وَتَهْيِيجُ شُعَبِ التَّنَفُّسِ، وَأَهْوَنُ ضَرَرِ ذَلِكَ بُحَّةُ الصَّوْتِ وَالسُّعَالُ، وَأَعْظَمُهَا تَدَرُّنُ الرِّئَةِ؛ أَيِ: السُّلُّ الْفَاتِكُ بِالشُّبَّانِ وَالْقَاطِعُ لِجَمِيعِ لَذَّاتِ الْإِنْسَانِ.
وَأَمَّا تَأْثِيرُهُ فِي الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فَهُوَ الَّذِي يُولِدُ الْجُنُونَ وَيُهْلِكُ النَّسْلَ، فَوَلَدُ السَّكُورِ لَا يَكُونُ نَجِيبًا، وَوَلَدُ وَلَدِهِ يَكُونُ شَرًّا مِنْ وَلَدِهِ وَأَضْعَفَ بَدَنًا وَعَقْلًا، وَقَدْ يُؤَدِّي تَسَلْسُلُ هَذَا الضَّعْفِ إِلَى انْقِطَاعِ النَّسْلِ أَلْبَتَّةَ، وَلاسيما إِذَا جَرَى الْأَبْنَاءُ عَلَى طَرِيقِ الْآبَاءِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ.
وَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ فِي التَّعَامُلِ وُقُوعُ النِّزَاعِ وَالْخِصَامِ بَيْنَ السُّكَارَى بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ يُعَاشِرُهُمْ وَيُعَامِلُهُمْ، تُثِيرُ ذَلِكَ أَدْنَى بَادِرَةٍ مِنْ أَحَدِهِمْ، فَيُوغِلُونَ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ عَدَاوَةٌ وَبَغْضَاءُ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ فِي نَظَرِ الدِّينِ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ بِهَا النَّصُّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [5: 91].
وَمِنْهَا إِفْشَاءُ السِّرِّ، وَهُوَ ضَرَرٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَضَرَّاتٌ كَثِيرَةٌ، وَلاسيما إِذَا كَانَ السِّرُّ يَتَعَلَّقُ بِالْحُكُومَةِ وَسِيَاسَةِ الدَّوْلَةِ وَمَصَالِحِهَا الْعَسْكَرِيَّةِ، وَعَلَيْهَا يَعْتَمِدُ الْجَوَاسِيسُ.
وَمِنْهَا الْخِسَّةُ وَالْمَهَانَةُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ؛ فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَكُونُ فِي هَيْئَتِهِ وَكَلَامِهِ وَحَرَكَاتِهِ بِحَيْثُ يَضْحَكُ مِنْهُ وَيَسْتَخِفُّ بِهِ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ، حَتَّى الصِّبْيَانُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهُمْ عَقْلًا، وَأَبْعَدَ عَنِ التَّوَازُنِ فِي حَرَكَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ، وَالضَّبْطِ فِي أَفْكَارِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَيَنْقُلُونَ عَنِ السُّكَارَى مِنَ النَّوَادِرِ الْغَرِيبَةِ مَا يَكْفِي فِي رَدْعِ مَنْ لَهُ شَرَفٌ وَعَقْلٌ عَنِ الْخَمْرِ، فَيُرَاجَعُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ وَالْمُحَاضَرَةِ، وَمِمَّا ذُكِرَ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ: أَنَّ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا مَرَّ بِسَكْرَانَ وَهُوَ يَبُولُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ كَهَيْئَةِ الْمُتَوَضِّئِ، وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْإِسْلَامَ نُورًا وَالْمَاءَ طَهُورًا، وَعَرَضَ بَعْضُهُمْ شُرْبَ الْخَمْرِ عَلَى أَحَدِ فُصَحَاءِ الْمَجَانِينِ فَقَالَ لَهُ الْمَجْنُونُ: أَنْتَ تَشْرَبُ لِتَكُونَ مِثْلِي، فَأَنَا أَشْرَبُ لِأَكُونَ مِثْلَ مَنْ؟
وَمِنْهَا أَنَّ جَرِيمَةَ السُّكْرِ تُغْرِي بِجَمِيعِ الْجَرَائِمِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّكْرَانِ وَتُجَرِّئُ عَلَيْهَا، وَلاسيما الزِّنَا وَالْقَتْلُ، وَبَلَغَنِي أَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ إِلَى مَوَاخِيرِ الزِّنَا لَا يَذْهَبُونَ إِلَيْهَا إِلَّا وَهُمْ سُكَارَى؛ لِأَنَّ غَيْرَ السَّكْرَانِ تَنْفِرُ نَفْسُهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الْمُبْتَذَلَةِ مَهْمَا تَكُنْ خَسِيسَةً؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْخَمْرُ أُمَّ الْخَبَائِثِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَضَرَّاتِهَا فِي النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
وَمِنْ مَضَرَّاتِهَا الْمَالِيَّةِ أَنَّهَا تَسْتَهْلِكُ الْمَالَ وَتُفْنِي الثَّرْوَةَ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
فَإِذَا شَرِبْتُ فَإِنَّنِي مُسْتَهْلِكٌ ** مَالِي وَعِرْضِي وَافِرٌ لَمْ يُكْلَمِ

وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ مُذْهِبَةً لِلثَّرْوَةِ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ كَزَمَانِنَا هَذَا، وَلَا فِي مَكَانٍ كَهَذِهِ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّ أَنْوَاعَ الْخَمْرِ كَثُرَتْ فِيهَا، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَالِي الثَّمَنِ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَّجِرِينَ بِهَا كَثِيرًا مَا يَقْرِنُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ إِلَى الزِّنَا، وَفِي مِصْرَ الْقَاهِرَةِ بُيُوتٌ لِلْفِسْقِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنِّسَاءِ وَالرَّاقِصَاتِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ زَرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَيَتَبَارَوْنَ ثَمَّ فِي النَّفَقَةِ حَتَّى لَيَخْسَرَ الرَّجُلُ فِي لَيْلَتِهِ الْمِئِينَ وَالْأُلُوفَ. وَإِنَّ الْخَمَّارَ الرُّومِيَّ الْفَقِيرَ لَيَفْتَحُ فِي إِحْدَى الْقُرَى وَالْمَزَارِعِ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ حَانَةً صَغِيرَةً فَلَا تَزَالُ تَتَّسِعُ بِمَا تَبْتَلَعُ مِنْ ثَرْوَةِ الْأَهَالِي وَغَلَّاتِ أَرْضِهِمْ حَتَّى تَبْتَلِعَ الْقَرْيَةَ كُلَّهَا، فَتَكُونُ أَمْوَالُهَا وَغَلَّاتُهَا وَقُطْنُهَا وَتِجَارَتُهَا فِي يَدِ الْخَوَاجَةِ صَاحِبِ الْحَانَةِ.
وَقَدْ عَمَّ الْبَلَاءُ بِالْخَمْرِ هَذَا الْقُطْرَ بِمَا لِأَهْلِهِ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ مَا يُصْرَفُ فِي مِصْرَ عَلَى الْخَمْرِ يَعْدِلُ مَا يُصْرَفُ فِي فَرَنْسَا كُلِّهَا.
وَمِنْ مَضَرَّاتِ الْخَمْرِ فِي الدِّينِ مِنْ حَيْثُ رُوحِهِ وَوِجْهَةِ الْعَبْدِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنَّ السَّكْرَانَ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُ عِبَادَةٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَلاسيما الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
فَهَذَا شَيْءٌ مِنَ الْبَيَانِ لِكَوْنِ إِثْمِ الْخَمْرِ كَبِيرًا بِمَعْنَى أَنَّ كِبَرَهُ بِكِبَرِ ضَرَرِهِ، أَوْ كَوْنِهِ كَثِيرًا لِكَثْرَةِ أَنْوَاعِهِ، وَقَدْ يَشْتَبِهُ بَعْضُ الْمُبْتَلَيْنَ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَضَرَّاتِ الصِّحِّيَّةِ، أَوْ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِمُ التَّوَقِّي مِنْهَا، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَتَوَهَّمُونَ؛ فَإِنَّ الْمِزَاجَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ سُمَّ الْخَمْرِ- الَّذِي يُسَمَّى الْكُحُولَّ أَوِ الْغُولَ- زَمَنًا طَوِيلًا بِحَيْثُ يَغْتَرُّ النَّاسُ بِحُسْنِ صِحَّةِ صَاحِبِهِ قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُبْتَلَيْنَ يَقِيسُونَ عَلَى النَّادِرِ وَيَجْهَلُونَ الْأَصْلَ الْغَالِبَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مُدْمِنُ السُّكْرِ مِنْ ضَرَرِهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ وَمَدَارِكِهِ أَوْ وَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، بَلْ تَجْتَمِعُ كُلُّهَا فِي الْغَالِبِ. وَأَمَّا الْمَضَرَّاتُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَيَقِلُّ فِي مُعْتَادِي السُّكْرِ مَنْ يَحْفِلُ بِهَا، عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ تَجَنُّبُهَا.
وَأَمَّا كَوْنُ إِثْمِ الْمَيْسِرِ كَبِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَقَدْ جَاءَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي الْخَمْرِ مِنْ كَوْنِهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَيَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي مَيْسِرِ الْعَرَبِ، وَفِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِمَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي عَصْرِنَا إِلَّا مَا يُسَمُّونَهُ الْيَانَصِيبَ فَإِنَّهُ عَلَى كَوْنِهِ مَيْسِرًا لَا شَكَّ فِيهِ لَا يَظْهَرُ جَمِيعُ مَفَاسِدِهِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَهَذَا بَيَانُهُ:
مَيْسِرُ الْيَانَصِيبِ:
هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ تَجْمَعُهُ بَعْضُ الْحُكُومَاتِ أَوِ الْجَمْعِيَّاتِ أَوِ الشَّرِكَاتِ مِنْ أُلُوفٍ مِنَ النَّاسِ كَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ- جُنَيْهٍ- مَثَلًا تَجْعَلُ جُزْءًا كَبِيرًا كَعَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ مِنْ دَافِعِي الْمَالِ كَمِائَةٍ مَثَلًا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِطَرِيقَةِ الْمَيْسِرِ وَتَأْخُذُ هِيَ الْبَاقِيَ؛ ذَلِكَ بِأَنْ تَطْبَعَ أَوْرَاقًا صَغِيرَةً كَأَنْوَاطِ الْمَصَارِفِ الْمَالِيَّةِ بَنْكِ نُوتْ تُسَمَّى أَوْرَاقَ الْيَانَصِيبِ تَجْعَلُ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا مَثَلًا يُطْبَعُ عَلَيْهَا، وَتَجْعَلُ الْعَشَرَةَ آلَآلَافِ الَّتِي تُعْطِي رِبْحًا لِمُشْتَرِي هَذِهِ الْأَوْرَاقِ مِائَةَ سَهْمٍ أَوْ نَصِيبٍ تُعَرَّفُ بِالْأَرْقَامِ الْعَدَدِيَّةِ وَتُسَمَّى النِّمَرَ- جَمْعُ نِمْرَةٍ- وَيُطْبَعُ عَلَى الْوَرَقَةِ الْمُشْتَرَاةِ عَدَدُهَا وَمَا تَرْبَحُهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَائِلِ مِنْهَا، وَتَجْعَلُ بَاقِيَهَا لِلتِّسْعِينَ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْمِائَةِ بِالتَّسَاوِي بِتَرْتِيبٍ كَتَرْتِيبِ أَزْلَامِ الْمَيْسِرِ يُسَمُّونَهُ السَّحْبَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ قِطَعًا صَغِيرَةً مِنَ الْمَعْدِنِ يُنْقَشُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَدَدٌ مِنْ أَرْقَامِ الْحِسَابِ يُسَمُّونَهُ نِمْرَةً مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مِنَ الْأَوْرَاقِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَيَضَعُونَهَا فِي وِعَاءٍ مِنَ الْمَعْدِنِ كُرَوِيِّ الشَّكْلِ كَخَرِيطَةِ الْأَزْلَامِ الْقِدَاحِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا آنِفًا، فِيهَا ثُقْبَةٌ كُلَّمَا أُدِيرَتْ مَرَّةً خَرَجَ مِنْهَا نِمْرَةٌ مِنْ تِلْكَ النِّمَرِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّحْبِ أُدِيرَتْ بِعَدَدِ الْأَرْقَامِ الرَّابِحَةِ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا أَوَّلًا سُمِّي النِّمْرَةَ الْأُولَى مَهْمَا يَكُنْ عَدَدُهَا، وَهِيَ الَّتِي يُعْطَى حَامِلُهَا النَّصِيبَ الْأَكْبَرَ مِنَ الرِّبْحِ كَالْقَدَحِ الْمُعَلَّى عِنْدَ الْعَرَبِ، وَمَا خَرَجَ مِنْهَا ثَانِيًا سُمِّيَ النِّمْرَةَ الثَّانِيَةَ، وَيُعْطَى حَامِلُهَا النَّصِيبَ الَّذِي يَلِي الْأَوَّلَ، حَتَّى إِذَا مَا انْتَهَى عَدَدُ النِّمَرِ الرَّابِحَةِ وَقَفَ السَّحْبُ عِنْدَهُ وَكَانَ الْبَاقِي خَاسِرًا.